" التربية هي حاجة الشعوب الأولى بعد الخبز "
"دانتون"
مقدمــــــــة :
لقد تطورت التربية مع تطور وضع الإنسان فكريا واجتماعيا، وتبدل حياة المجتمعات عبر التاريخ، مما أدى إلى تبدل مفهومها وتغير أسسها وقواعدها التي تستند إليها. ونتيجة ذلك، تبدلت الآراء التي تكونت عن الطفل، وتغيرت الأساليب التي يراد إتباعها معه لتربيته وتكوينه. بل تغير الفهم لطبيعة التربية ذاتها في حدودها وانطلاقتها، وفي امتداداتها وتقلصها. كل هذا سيعرف انعكاسا على معنى التربية ومفهومها، إذ سيعرف هذا المفهوم بدوره عدة تسميات، كل واحدة منها تعكس فهما ومعنى خاصين لعملية التربية.
I. من التربية إلى علوم التربية :
إن تحديد طبيعة التربية بشكل نهائي، ظل مشكلا قائما لم يستطع المهتمون التغلب عليه، على الرغم من تعدد التعاريف التي عرفتها التربية على مدى تطورها. لقد بقي مفهوم التربية، من جهة، مفهوما عاما جدا، ومنفتحا على جميع الممارسات وأشكال التأثير التي تمارس على الطفل كيف ما كان نوعها ومصدرها، وبقيت إجراءاتها ووسائلها المعتمدة غير ممنهجة وغير مقننة، من جهة أخرى. ولعل هذا ما دفع بعض رجال التربية إلى استعمال مصطلح "بيداغوجيا Pédagogie " باعتباره مواز لمصطلح « تربية"، يمدها ببعض المبادئ وبعض التوجيهات الضرورية.
فرغم انتشار مصطلح البيداغوجيا، لم يلبث المهتمون، تحت تأثير تطور البحث التربوي والجهاز المفاهمي لكثير من العلوم، أن لاحظوا قصور هذا المصطلح، رغم ما قدمه من محاولات لعقلنة الممارسة التربوية على مستوى التنظير والتأمل، حيث يبدو واضحا عدم قدرته على اختزال التراكم الهائل من الإنتاج العلمي الذي عرفته السنوات الأخيرة في حقل العملية التربوية. صحيح أن انفتاح البيداغوجيا على علم النفس ساعد على ظهور حقل شبه مستقل، ظل مواكبا للبيداغوجيا عرف تحت اسم "السيكوبيداغوجي " أو "علم النفس التربوي". إلا أن ما يزخر به الواقع التربوي من تعقد وتشابك، جعل هذه السيكوبيداغوجيا ذاتها قاصرة هي الأخرى، باعتبارها تنظر إلى الفعل التربوي نظرة ضيقة أحادية البعد.
ومع تطور الحركة العلمية، خاصة في منتصف القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، اتجهت العلوم الإنسانية كلها إلى تأسيس موضوعها وتحديد منهجها في الدراسة والبحث، وحظيت التربية بدورها هي الأخرى بنصيب وافر من هذا التأثير، فظهرت الإرهاصات الأولى لما شرع في تسميته "بعلم التربية Science de l’éducation" الذي كان يرمي إلى تحقيق الرصانة والضبط العلميين أكثر من سعيه إلى تناول الموضوع في شتى مظاهره وأبعاده.
من هنا تأكدت القناعة لدى الدارسين على أن خصوبة الظاهرة التربوية وتشعب أطرافها، أوسع بكثير من أن يستطيع علم واحد حصرها، ومن ثم السيطرة عليها. ومن هنا بدأت الحاجة ماسة إلى إعادة النظر في التسمية، بل في الحقول والميادين المعرفية التربوية بما يجعلها قادرة على أن تغطي مجموع مكونات وفعاليات الظاهرة التربوية في مختلف أبعادها، البيولوجية والسيكولوجية والسيكوسوسيولوجية والسوسيولوجية، وكذا الفلسفية والاقتصادية وغيرها، فكانت النتيجة الحتمية هي العمل على تجاوز علم التربية بالمفرد، واستبداله بمصطلح جديد يضم كل الحقول المعرفية التي تتصدى بالاهتمام لمجموع أبعاد الظاهرة التربوية والشروط التي تمارس فيها. ويحمل هذا المصطلح اليوم اسم "علوم التربية Sciences de l’éducations ".
إن ظهور علوم التربية بالجمع، ينبغي أن يرسخ في ذهننا حقيقتين أساسيتين :
1 ـ إن تعدد أبعاد الظاهرة التربوية، يقتضي تعدد مقاربات تناولها، ومن ثم، فكل العلوم المتصلة بالتربية لإفادتها أو الاستفادة منها، مرشحة بقوة لأن تدرج في قائمة علوم التربية.
2 ـ إن هذه العلوم مهما اغتنت لائحتها وتفرعت، تبقى على الدوام نظاما متفاعلا، وذلك على مستويين؛ مستوى داخلي يفتح خط التكامل بين مختلف الحقول المكونة لعلوم التربة، ومستوى خارجي يفتح هذا الخط بين هذه العلوم وعلومها المرجعية التي تؤطرها، ثم بين باقي العلوم الأخرى التي تدعو الحاجة أحيانا إلى الاستئناس بها في المجال التربوي.
III.إشكالية تصنيف علوم التربية :
من الصعب العثور على تصنيف واحد لعلوم التربية، يمكنه أن يحض باتفاق جميع الباحثين. ويرجع ذلك لتعدد التصانيف المقترحة واختلافها باختلاف الأسس المرجعية المعتمد عليها في التصنيف، وباختلاف التصور المعطى لمضامين علوم التربية ذاتها. وهذه مسألة تكاد تعرفها عملية التصنيف في كل المجالات المعرفية. ففي المجال التربوي وحده، نجد مشكلة التصنيف تطال عددا من المواضيع، مثل تصنيف مراحل النمو النفسي، أو تصنيف الطرائق التعليمية أو الوسائل والتقنيات البيداغوجية... بل أكثر من هذا، فالتصنيف الواحد لعلوم التربية قد لا يعرف هو نفسه بعض الاستقرار من طرف واضعيه، مع التقدم في التاريخ. وهذا طبيعي إذا نحن سلمنا بأن علوم التربية لا تزال حقلا فتيا يشهد التطور والتغير يوما بعد يوم، مستثمرا في كل ذلك معطيات الميدان ونتائج أبحاثه من جهة، وأبحاث العلوم الأخرى المتعددة التي يعتمد عليها من جهة أخرى.
خلاصــــــة :
تعتبر الظاهرة التربوية ظاهرة معقدة، مركبة الأبعاد ومتداخلة العناصر، وذلك بفعل تنوع وتشابك العوامل التي توجهها وتمارس عليها التأثير، باعتبارها فعالية إنسانية يتحكم فيها ما هو بيولوجي وما هو سيكولوجي وما هو سوسيولوجي، فضلا عن معطيات أخرى يتصل بعضها بتاريخ المجتمع وفلسفته، وبعضها الآخر متصل بإمكاناته الاقتصادية والحضارية... وهذا ما يؤكد أن الظاهرة التربوية تتضمن أبعادا كثيرة. فهي ذات بعد بيولوجي يحتم الانفتاح على معطيات علوم الحياة ونتائجها فيما يخص المحددات التكوينية لسلوك الإنسان وأنشطته الحيوية. كما أنها ذات بعد سيكولوجي يلزم بالضرورة، الاستناد إلى معطيات علم النفس بمختلف فروعه التي تطال عملية التربية، لمحاولة الكشف عن الجوانب السيكولوجية التي تؤثر في السلوك العام. وهي أيضا ذات بعد سوسيولوجي يفرض دائما مراعاة الإطار الحضاري والثقافي العام للمجتمع والذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار في كل تنشئة اجتماعية للأطفال. وعلاوة على هذه الأبعاد الأساسية، هناك أبعاد أخرى تاريخية وفلسفية واقتصادية...، تميز كلها الظاهرة التربوية وطابعها الخاص، مما يجعلها بالتالي ظاهرة مركبة يقتضي تحديدها وتحليل أبعادها المكونة لها. وهذا ما يتطلب، إذا أريد تحقيق فهم دقيق وشمولي لهذه الظاهرة، الاستعانة بعدة علوم تتضافر فيما بينها لتضفي على العملية التربوية ككل، طابعا عمليا يجعلها عملية معقلنة، خاضعة من جهة، لمعطيات البحث العلمي، ومن جهة أخرى لخصوصيات الواقع الميداني الذي ينجز فيه. وهو ما يحتم حقا على علوم التربية، كي تطور الممارسة التربوية في الاتجاه المطلوب.
ـــــــــــــــــــــ
المراجـــــــــع :
ـ التربية العامة .روني أوبير ترجمة عبد الله عبد الدايم. دار العلم للملايين، بيروت.ط.1. 1967.
ـ التدريس الهادف. محمد الدريج. مطبعة النجاح الجديدة/ البيضاء. ط.1. 1990.
- - Introduction à la pédagogie. G.Mialaret. P.U.F. Paris. 1977.
- Les sciences de l’éducation. G.Mialaret. Q.S.J. 1984.
- Traité des sciences pédagogiques. G.Mialaret, M.Debesse. P.U.F. Paris. 1969.
_______________________
ذ. بنعيسى احسينات